مقدمة نقدية

السينما العربية الجديدة

غبار الزمن ولحظات المدينة

 

 

هل هي عربية ! هل هي جديدة !!

يتحفظ الكثير من النقاد على مصطلح الجديدة حين يرتبط بأنتاجات سينما منطقة معينة أو دولة بعينها، بل أن التحفظ يمتد إيضا إلى مصطلح السينما العربية في حد ذاته ويعتبر البعض أن المصطلح في الأساس غير علمي وغير دقيق لأنه لا يستند على معطيات إنتاجية وثقافية وبيئية بل وحتى سياسية وأجتماعية مشتركة بل هو مجرد بقايا ايديولوجية من اثر حقبة"الوحدة"و"الصف"والاحلام التي حطمها الأصدقاء قبل الأعداء.

دائما ما يبدو الأقرب للتوصيف الدقيق هو أن ينتمي كل فيلم إلى تاريخ بلده السينمائي وهويته السياسية والأجتماعية كأن نقول السينما المصرية أو السينما المغربية أو الجزائرية ولكن حتى تلك التوصيفات- في ظل انظمة التمويل الحديثة والحراك السياسي الحادث-حين ننظر إليها سوف نجدها مشتتة وغامضة السياق، فالفيلم المغربي أو الجزائري قد نجد أن إنتاجه فرنسي أو اوربي بالأساس وبالفيلم اللبناني قد نجد أن النسبة الأكبر من تمويله كانت من نصيب الأمارات وهكذا..

يمكن إذن أن نخلص إن قبول المصطلح سوف يتأتى لا من تتبع سياقاته الأنتاجية ولا جنسيات مخرجيه بل من الهموم التي تحملها التجارب التي تندرج تحته، بمعنى أنها سينما"عربية"نعم ولكنها ليست"عربية"بحكم "الأنتاج"ولكنها"عربية الهموم". ومن هنا يمكن أن نطمئن لدلالة المصطلح بأذهان راضية ووجدانات متفتحة لقبول العناصر المشتركة أو محاولات التجديد في انساق السرد والزمن والشخصيات وحضور المدن وظلال الأماكن.

الزمن والمدينة

خمسة أفلام تمثل بالنسبة لنا نماذج من تجارب السينما العربية الجديدة خلال بدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أقدمهم فيلم"النهاية" 2010أولى التجارب الروائية الطويلة للمخرج المغربي هشام العسري وأحدثهم"الوهراني"2014 للجزائري إلياس سالم. وتضم بينها "الجمعة الأخيرة" 2011 للأردني يحيى العبد الله و"قصة ثواني"2012 للبنانية لارا سابا و"ظل البحر"2011 للأماراتي نواف الجناحي.

التجارب الخمسة لمخرجين من نفس الجيل تقريبا، والتجارب الخمسة تمثل الأنتاجات الأولى أو الثانية- في مجال الفيلم الروائي الطويل-لمخرجيها الشباب اي أنها تعكس صورة شبه واضحة لما يعتمل في أذهانهم من هموم وأحلام وتفاصيل تشغل وجدانهم الفردي والجمعي على حد سواء، وتضعنا مشاهدة الأفلام الخمسة أمام عناصر سينمائية مشتركة  تمثل ملامح البناء البصري والدرامي نتوقف أمام عنصرين رئيسيين منها هما الزمن والمدينة.

غبار الزمن

يمثل الزمن عنصر رئيسي في السرد الدرامي والسياق البصري العام لأي فيلم، والمقصود بالزمن هنا هو الزمن الدرامي وليس زمن اللقطات والمشاهد، والملاحظة الأساسية على اسلوب تعاطي المخرجين– في التجارب المنتقاة- مع الزمن الدرامي هو ذلك الحضور الكمي لعدد قليل من الأيام في مقابل زخم العلاقات وكثافة المواقف وتعدد الشخصيات، في"النهاية"على سبيل المثال فأن المخرج يتحرك منذ بداية شهر يوليو حتى يوم وفاة الملك الحسن الثاني مستعرضا حالة ابوكاليبسية اقرب إلى العد التنازلي نحو القيامة وكأن ما يجري أمامنا على الشاشة من تفاصيل تعكس الواقع الملتبس والقلق والغامض هو علامات الساعة(السياسية والأجتماعية)التي سوف تقوم بموت الملك.

وفي"الجمعة الأخيرة"نعيش مع الأب الذي ينتظر اجراء عملية خطيرة الأسبوع الأخير في حياته والأقرب إلى اسبوع الألام التراثي، الجمعة هنا ليست يوم واحد فقط ولكنها اسبوع يختصر مجمل حياة هذا الرجل الذي يمثل شريحة من الطبقة الوسطى التي تنهار في بلد يمر بازمات تشبه ازمات الكثير من البلدان المجاورة له.

نفس هذه الطبقة تحديدا نراها للمرة الأولى على شاشة السينما من خلال فيلم"ظل البحر"الذي يترك دبي وأبو ظبي نحو رأس الخيمة حيث مجتمعات الفريج/الأحياء الخليجية المتوسطة التي لم تعرف ناطحات السحاب والسيارات الفارهة والتي تعاني من أزمات اقتصادية وأجتماعية تشبه إلى حد كبير ازمات الطبقات المماثلة في الدول العربية الغير نفطية، وفي سياق زمني مكثف نستشعره عبر الأحداث التي تدور في أسابيع قليلة.

أما في"قصة ثواني"فأننا أمام بناء زمني مفتت يشبه إلى حد كبير ذلك البناء الزمني الاثير لدى المخرج المكسيكي انرييتور والذي اثر في جيل كامل من المخرجين العرب،وشاهدناه في اكثر من تجربة سينمائية عربية خلال السنوات الماضية، وهو الأسلوب الذي يعتمد على تشظي كامل في السرد الزمني لاحداث الفيلم وحيوات الشخصيات حيث كل في زمنه الخاص وكل في بيئته رغم أنهم يعيشون في مدينة واحدة قبل أن يجتمع كل هذا التشظي في النهاية عبر حادث لا يستغرق حدوثه إلا ثوان قليلة ولكنها كفيلة بأن تمر اعمار الشخصيات ومصائرها كاملة أمام أعيننا.

ولا يمكن اغفال عنصر الفلاش باك إلى جانب عنصر كثافة الزمن ضمن سياقات السرد الزمني والزمن الدرامي في التجارب السينمائية"الجديدة" ورغم أنه عنصر تقليدي ويكاد يكون نمطي إلا أنه يمثل بالنسبة للعديد من التجارب الحديثة مساحة حرة للحركة في الزمن للأمام والخلف دون أن يظل مرتبطا بالتصور الكلاسيكي عن أعادة انتاج الماضي بصريا ودراميا، ويمكن أن نلمح هذا التعاطي مع فكرة الفلاش باك من خلال فيلم"الوهراني"الذي يبدأ من نقطة حاضرة في الزمن ثم يقفز إلى الأمام ثلاثون عاما كاملة ومن فوق تلك التلة الزمنية المرتفعة يبدأ في استعراض سهول الماضي المنبسطة أمام الذاكرة من أجل الوصول إلى اللحظة التي شكلت المحور الفاصل في حياة شخصياته الثلاث(المناضل والمتحول والشهيد) على اعتبار أن الحاضر هو ابن الماضي بلا منازع وأن لحظة تنازل واحدة أو تحول أو فساد في الماضي يمكن أن تؤدي إلى سلسلة لا نهائية من الأخطاء والتنازلات والأخفاقات التي يمكن أن تتجاوز اضراراها الأفراد إلى مجتمع بأكمله هو مجتمع الجزائر ما بعد التحرير على وجه الخصوص وكل المجتمعات"العربية"الأخرى التي اقتنص ثوراتها المغامرين وراكبي الموجة والمحتل الوطني الذي اخذ مكان المحتل الأجنبي.

لحظات المدينة

 تمثل المدينة عنصر اساسي من عناصر البناء الدرامي في التجارب الفيلمية للسينما العربية الجديدة وهو ما يتجلى في النماذج الخمس التي تشكل قوام برنامجنا هذا العام حيث تحضر المدينة ليس فقط على اعتبار أنها المكان أو المجتمع الذي يضم الشخصيات بل هي نوع من ظرف الزمان، فالمدينة الحاضرة في المشاهد واللقطات هي دلالة مباشرة لفكرة(هنا والأن)التي تعتبر عنصر فكري رئيسي في التجارب السينمائية العربية الجديدة، وتتجاوز الصلة المباشرة بين المدينة والفيلم مجرد العنوان المباشر مثل(الوهراني)بل وفكرة أن تصبح المدينة اختصارا للدولة. المدينة في"قصة ثواني"هي الحاضر الذي يضم شخصيات الفيلم المعذبة بهموم وأحلام كل منها يكمل الأخر، ففي الوقت الذي تنتظر فيه أحدى الشخصيات طفلها الأول الذي لن تكتمل حياتها بدونه، نجد طفلا أخر يعاني من شعوره بأنه زائد عن حاجة أمه السكيرة الموتورة صاحبة العلاقات السيئة.

وفي"الجمعة الأخيرة"تطل علينا المدينة أسفل منزل الأب وكأنها اختصار لمعاناته في مواجهة كيان أكثر شراسة وقوة بالدرجة التي يصعب عليه مواجهته أو هزيمته، أنه يعمل كسائق تاكسي يجوب شوارعها بحثا عن لقمة العيش وهو ودوما ما يخسر مواجهاته معها تماما كما يخسر مواجهته مع طليقته الجميلة التي يمكن اعتبارها الوجه الأخر من المدينة بكل عنفوانها وجسدها المفرط في التعبير عن الجمال والألم.

وفي النهاية فأن المدينة تخرج من حيز الواقعي الطبيعي إلى حيز الصورة الذهنية التي تمثل انعكاس لحقيقة المجتمع المشوه المليئ بالشخصيات الغرائبية التي نراها بالأبيض والأسود، يبدأ النهاية بكادر مقلوب لنفق طويل تبدو فيه السيارات وكأنها تسير على السقف, هذه اللقطة الواسعة للنفق ثم للشارع تدوم زمنيا لفترة معينة حتى نتصور أن ثمة خطأ في عرض الفيلم ولكننا في الحقيقة أمام مفتاح اساسي من مفاتيح قراءة المادة الفيلمية يمنحه لنا المخرج من اللقطة الاولى, اننا امام تصورين دراميين اساسين الاول هو مدخل العالم السفلي الذي سوف تدور فيه احداث الفيلم والثاني هو انعكاس العالم كأننا أمام عالمين الأول ارضي واقعي معروف والثاني يقع اسفله تماما ويشاركه نفس الارضية فتبدو شخصياته وتفاصيله كلها مقلوبة او كأنها انعكاس على سطح مرآة للعالم الفوقي.

المدينة في فيلمي"النهاية"و"الجمعة الاخيرة"دوما صامتة لأنها تمثل اما مدفنا للأسرار أو كيان مصمط لا سبيل لأختراقه، بينما في"قصة ثواني"هي المفعمة بالاصوات والحركة التي تجعل من السهل أن نرصد ضياع شخوصنا وسطها ولقائهم أثر حادث كأننا لا نرى بعضنا او انفسنا الا حين نصطدم وتحدث المآساة.

وفي"ظل البحر"تبدو المدينة جزء من واقع الشخصيات الباحثة عن منافذ للخروج من مساحات نفسية واجتماعية ضيقة ومحدودة، المدينة هي ظل البحر على النفوس ولكنهم بقدر ما يحبون البحر ويمثل لهم افق الحرية والحب المنشود تمثل لهم المدينة اسوار التقاليد والأبواب المغلقة والخيبات العاطفية والغرباء الذين يشكلون خطرا مقيما وتهديد مستمر.

 رامي عبد الرازق